مقدمة في كتاب
لمحات في تاريخ العلوم الكونية عند المسلمين
د. عبدالله حجازي
تاريخ الإضافة: 26/8/2012 ميلادي - 8/10/1433 هجري
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / طب وعلوم ومعلوماتية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يَهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد يَضيق بعض المثقَّفين العرب صدرًا بالبحث في بطونِ الماضي كشفًا عن كنوزِنا المغمورة، وتحقيقًا لمخطوطاتنا المجهولة، وقد يرى هؤلاء أنَّ التركيزَ على ما يمكِّن للعلمِ في حاضره، ويمهِّد لازدهارِه وتطوُّره - أجدى على هذه الأمَّة من أن تضيع أوقات علمائها بالبحث والتحقيق.
غيرَ أن استقراء تاريخ الأمم يشهدُ أن هذه الأمم حينما تشرعُ في النهوض والتيقُّ بعد سُبات، تعود إلى ماضيها، وتعمل على إحيائه بشتَّى الصوَر، بل وتُثبت المضيءَ من ماضيها على صفحات الكتب المدرسية والجامعية أحيانًا؛ فالمربُّون يدركون أنَّ في هذا المسلك استنهاضًا لذوي الهمم العالية وشحذً للأذهان، ودفعًا للأجيال الناشئةِ إلى المضيِّ في طريق الإبداع والابتكار.
وليس أحسن للشباب -وعلى أكتافهم تقوم نهضاتُ الأمم- من أن يجِدُوا تحت أيديهم تراثًا علميًّا، يزخر بحقائق العلم والمعرفة، فيقف أحدهم على تراثٍ لطالما انكبَّ الأسلافُ على تدوينه وإعداده، وأوقدوا السُّرُجَ وأفنَوا اللياليَ زاهدين في الدنيا وزخرفِها، حتى خلَّدوه تراثًا ضخمًا، ذلك التراث الذي غدا - بعد أن نُقل إلى اللاتينية - نِبراسَ النهضة العلمية العارمة التي اجتاح بلدانَ الغربِ في القرنين الماضيين؛ لذلك فإن الشابَّ المسلم المتخصِّص في علم من العلوم الكونية والطبية يشعر بالخِذلان حينما يطَّلع على أمهات الكتب العلمية التي تتناول هذه الفروعَ من العلوم، ويجِد أن جُلَّ القوانين والمعادلات والنظريات - بما فيها الاكتشافاتُ الطبية - نُسبت إلى أعلامٍ من الغربِ النَّصراني، والتحقيق العلميُّ يؤكِّد يومًا بعد يوم أنَّ كثيرًا من تلك الاكتشافاتِ العلمية المنسوبةِ إلى الأوروبين هي إمَّا تطويرٌ لِمَا جاء عند العلماء الأفذاذ الذين وُجِدوا في البلاد الإسلامية، أو أنها صورة طبق الأصل لأعمالهم وابتكاراتهم.
فمن قريب (1343هـ/ 1924م) اكتشف أحدُ طلبة الطبِّ المصريين في ألمانيا مخطوطةً في برلين لابن النَّفيس (ت 687/ 1288م)، ورد فيها ذكرُ الدورة الدموية الصُّغرى، علمًا أن هذا الاكتشافَ بقِي قرونًا يُنسب إلى هارفي.
وفي عام 1372هـ/ 1952م اكتشف مخطوطة لابن الشاطر[1] (777هـ/ 1375م)، وذكر فيها أنَّ الأرضَ ليست مركزَ الكون، كما هو في نظام بطليموس، وأنَّ الكواكبَ تدور حول الشمس، وهذا المفهوم نفسُه ورد في كتاب البولندي كوبرنيكوس (ت 950/ 1543م)، الذي درس تراثَ المسلمين في الفَلَك، خلال رحلته إلى إيطاليا التي استمرَّت نحو ثمانية أعوام (902هـ/ 1496م - 909هـ/ 1503م)، ولم يجرؤ كوبرنيكوس على نشرِ كتابه؛ خوفًا من بطش الكنيسةِ في زمنه، وقد كانت تتبنَّى نظامَ بطليموس؛ فلما جاء غاليليو (ت 1052هـ/ 1642م) الإيطالي بعده بقرن، أعلن تأييدَه لنظام كوبرنيكوس، ثم تلاه كبلر (1040هـ/ 1630م) الألماني الذي صحَّح الفكرةَ عن مدارات الكواكب، وقال: إنها ليست دائريةً، بل هي إهليليجية.
وهكذا يتَّضح أن أصلَ الفكرة يرجعُ إلى عالِم مسلم، وليس إلى الأوروبيين كما يزعم الكثيرون.
وبعد، فإن الحماسةَ إلى إحياءِ التراث الإسلامي، لا تقتصرُ على إبطال البهتان الذي نُسب إلى المسلمين - ظلمًا وجَوْرًا - بأنهم مجرد نَقَلة، ولا على الحرص على العثورِ على مخطوطات، هي في حد ذاتها كنزٌ لا غنى عنه في معرفة الذات، بل تتعدَّى ذلك إلى أمرٍ مهم جدًّا، وهو إبراز حقيقةٍ ناصعة مفادُها أنَّ هذا التراثَ ما كان ليكونَ تراثًا ضخمًا مفيدًا ورائعًا لولا أنه نبَت وترعرع في ظل سلطان الإسلامِ، وعلى هديِه وتوجيهاته السامية.
ولسائل أن يسأل: لقد كان التراث الإسلاميُّ الضخم في العلوم الكونية والطب نتيجةَ جهود أعدادٍ غفيرة من العاملين في هذه المجالات، ومنهم البَرُّ والفاجر، والمؤمن والكافر، ومنهم المسلم واليهودي، والنصراني والمجوسي، فما الذي يجعله تراثًا إسلاميًّا؟
أجل، إن هذا ما كان فعلاً؛ غير أن الحقيقةَ التي لا مراءَ فيها أنه لو لم يكن - في ذلك العهد - للإسلام سلطانُه على الحياة العامة، ولو لم يبسُطِ الإسلامُ سماحتَه على الناس جميعًا، ولو لم يهيِّئِ المناخ الخِصب للإبداع والابتكار، لكل من عاش في ظل سلطانه.. لولا ذلك لَمَا تمكن هؤلاء وهؤلاء من أن يُنجزوا ما أنجزوا.. دَعْك من فرار النساطرة والمفكرين من مدرسة الرُّها ومن المدرسة الأفلاطونية في أثينا، ومن مدرسة الإسكندرية التي أغلقها جستنيان، دَعْك من هؤلاء جميعًا، فإن فرارَهم من ملاحقة السلطان والكنيسة كان قبل ظهورِ الإسلام بأكثرَ من قرن.. لكن ما بال حوادثِ البطش والتنكيل والقتل والحرق الذي لحق بالعلماءِ والمفكِّرين إبَّان القرون الوسطى الأوروبية؟
أي إبان كانت سُرُجُ العلماء والمصنِّفين والمفكِّرين في البلاد التي حَكمها الإسلامُ لا تنطفئُ في طول البلاد وعَرضِها.
فأي إنصاف وأي عدل أن يُقرَنُ سلطانُ الإسلام وما أضفاه من حرية وسماحة، بسلطان الكنيسة وما شمِله من بطش وتنكيل؟
والحقُّ أن الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان من الجهلِ والضلال، ونقلِه إلى العلم والهدى - لأسمى من أن يُهين الإنسان؛ وكتاب الإسلام الأعظمُ يقول: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].
فضلاً عن ذلك، فإن إحياءَ التراث أمرٌ ذو شأنٍ عظيم فيما يتعلَّق باللغة العربية؛ فلا يخفى على المربِّين، وأساتذة الجامعات بخاصة، أنه يترتب على إحياء التراث عودةُ اللغة العربية إلى مكانتِها الرفيعة، التي كانت عليها إبان قرون عديدة؛ فقد كانت هذه اللغة، كما يؤكِّد سارطون شيخ مؤرخي العلوم: "أكثرَ اللغات التي تكلَّمها البشر انتشارًا، ولم يتكلَّمِ اللغةَ العربية ويكتبْ فيها شعوبٌ من أممٍ مختلفة في الشرق والغرب فحسب، بل (وهذا بخلافِ اللُّغةِ اللاتينية) قد استخدمها شعوبٌ تَدين بأديان متعددة"[2].
وفي هذا الصدد، ينقُل ليفي بتروفنسال[3] قولَ البارو القرطبي في كتابه "الدليل المنير": ".. واحسرتاه! لقد نسِيَ النصارى حتى لسانَهم الدِّيني، فلا تكادون تجدون بين ألفٍ منا واحدًا يعرف أن يكتبَ رسالة باللاتينية إلى صديقٍ له كتابةً لائقة، ولكن إذا ما قضي[4] بكتابة رسالة بالعربية، وجدتَ جمعًا من الناس قادرًا على التعبير عن نفسه بهذه اللغة تعبيرًا مناسبًا مع أعظمِ ذلاقة، وأبصرتَه قادرًا على نظم قصائدَ بالعربية أفضلَ مما ينظِم العربُ أنفسُهم من الناحية الفنية".
والحق أنها كانت لغةَ المدارس والمعاهد العلمية، ولغةَ الجامعات في كلِّ مكان تقريبًا، بل إنَّ رواد النهضة العلمية في أوروبا وبناتها كانوا يُصرُّون على تعلُّم اللغة العربية، إذا أراد أحدهم فَهْمَ العلوم آنئذٍ؛ من ذلك قولُ روجر بايكون الإنكليزي (ت692هـ/ 1292م) - وهو يُعَدُّ في الأوساط العلمية الغربية رائدَ العلوم التجريبية[5] -: "أعجبُ ممن يريدُ أن يبحثَ في الفلسفة وهو لا يعرفُ اللغة العربية!".